شهدت العقود الأخيرة تحولات بنيوية في مهنة التصميم المعماري، حيث أصبح خاضعا لمنهجية السوق الاستهلاكي والاستعراض البصري، أدى هذا الواقع إلى تراجع الاهتمام بالبعد الإنساني والاجتماعي في التصميم. وبالتالي نشوء ” عمارة متعالية” عن الواقع المعاش ، تتباها بالأشكال الهندسية والمفاهيم التجريدية ، على حساب التجربة اليومية والاحتياجات الملموسة للاشخاص.
وفي ظل هذا التحول ، بات من الضروري إعادة طرح سؤال : هل ما زلنا نُصمم من أجل الإنسان ؟
يسعى هذا المقال المعتمد على دراسة اكاديمية مقدمة من الباحثتين Diah Asih Purwaningrum من معهد باندونغ للتكنولوجيا، وAmalinda Savirani من جامعة جادجاه مادا، تحت عنوان:
“Architecture for Living: Do We Design Architecture for Humans?”
إلى تفكيك البنية الفكرية للخطاب المعماري المعاصر من منظور نقدي، من خلال تحليل العلاقة بين العمارة والإنسان، واستعراض الاسباب التي اوصلتنا إلى تباعد متزايد بين التصميم المعماري وواقع واحتياجات المستخدمين. ويقترح نهجا مبدئيا بديلًا يضع الإنسان في اولوية العملية التصميمية، ويُعيد الاعتبار للمسؤولية الاجتماعية للمعماري.
العمارة بوصفها أداة رمزية للسلطة
تاريخيًا، لعبت العمارة دورًا مزدوجًا: فهي من جهة تعبّر عن القيم الثقافية والاجتماعية، ومن جهة أخرى تُستخدم كأداة لفرض السلطة وإعادة إنتاجها بصريًا ومكانيًا. وفي السياقات الحديثة، تعزز هذا الدور السلطوي للعمارة، خاصة في ظل تزايد استخدام التصميم كوسيلة لتجميل واجهة المدينة وتصدير صورة معينة عن الحداثة والتقدم.
وغالبًا ما يُستبعد الإنسان من هذا المشهد البصري، ليُستبدل بمقاييس معيارية تتجاهل التعدد والتنوع. فالعمارة تتحول إلى ممارسة استعراضية، تنحصر وظيفتها في إنتاج “صورة مثالية”، دون الالتفات إلى التعقيدات الاجتماعية والسياسية التي تحيط بها. هذا الانفصال يؤدي إلى إنتاج بيئات عمرانية متعالية على الواقع، تُقصي الهويات المحلية، وتُهمّش الفئات غير القادرة على الانخراط في اقتصاد التصميم المؤسسي.
القطيعة بين التصميم والواقع الاجتماعي
أحد مظاهر الأزمة المعمارية المعاصرة هو انكفاء المعماريين على أنماط إنتاج شكلية، يغلب عليها الطابع الهندسي والنخبوي، في مقابل تراجع التفاعل مع القضايا الاجتماعية. لقد أصبح التصميم – في كثير من الحالات – عملية مغلقة، ينفّذها خبراء داخل مكاتبهم، بناءً على تصورات مجردة أو معطيات رقمية، دون انخراط فعلي مع من سيستخدم الفضاء المصمَّم.
وتظهر هذه القطيعة بجلاء حين تُصاغ الحلول العمرانية بناءً على فرضيات مسبقة ومقاسات ثابتة، تُطبّق على المجتمعات وكأنها كتل متجانسة، لا أفرادًا يحملون خبرات وتجارب متباينة. تُتَجَاهَل المعرفة المحلية، وتُختزل التجربة المعيشة في معايير وظيفية وجمالية. وهكذا، تفقد العمارة جوهرها كفن اجتماعياً يتفاعل مع السياق، لتصبح مجرد تمثيل رمزي للسلطة أو السوق.
إشكالية المعرفة والتخطيط من الأعلى
ترتبط أزمة العمارة أيضًا بإشكالية إنتاج المعرفة من موقع “الخبراء”، حيث تُحتكر القرارات من قبل نخبة بيروقراطية وتقنية، وتُفرض من أعلى إلى أسفل. وتُعتبر رؤية “المصمم العارف” امتدادًا للحداثة التنويرية، التي تفترض وجود حلول عالمية قابلة للتعميم، بعيدًا عن تعقيد السياق أو رأي المستخدمين.
هذا المنظور التقني يُقصي السكان من المساهمة في تشكيل بيئتهم، ويحوّلهم إلى متلقّين سلبيين لقرارات مصيرية تمسّ حياتهم اليومية. في المقابل، تتعزز مواقف استعلائية لدى المعماريين، الذين يرون أنفسهم مالكي الحل، دون حاجة إلى الإصغاء إلى صوت من هم على الأرض.
إن هذه الفجوة بين المعرفة المتجسدة التي يحملها السكان، والمعرفة المجردة التي ينتجها الخبراء، تُسهم في إنتاج فراغ عمراني بارد، يخلو من الروح، ولا يعبّر عن الحاجات الحقيقية لمن يُفترض أن يخدمهم التصميم.
العمارة كأداة ضبط اجتماعي
لا تتوقف إشكالية التصميم عند حدود الشكل أو المعرفة، بل تتعداها إلى البُعد السياسي للفضاء. فالتصميم المعماري يُستخدم – عن وعي أو غير وعي – كأداة لإعادة تشكيل العلاقات الاجتماعية والتحكم فيها. من خلال توزيع الوظائف، تحديد المساحات، إدارة الحركة، وحتى اختيار المواد والألوان، تُمارَس أشكالاً خفية من الرقابة والانضباط.
يُفرض على المستخدم نمط حياة محدد، ويُمنع من تعديل الفضاء أو التصرّف فيه بحرية. يتجلى ذلك في النماذج السكنية النمطية التي تُقيّد ساكنيها بمعايير موحدة، وتُصمم بُنى غير قابلة للتكيّف مع أنماط الحياة المختلفة، مما يؤدي إلى تفكك البنى الاجتماعية وتهميش الهويات الثقافية.
إعادة التفكير في دور المعماري
أمام هذا الواقع، تبرز ضرورة إعادة النظر في دور المعماري، من صانع للقرارات إلى وسيط اجتماعي، ومن منتج للشكل إلى محفّز للحوارات. يتطلّب ذلك تبني منهجية تشاركية تضع المستخدمين في قلب العملية التصميمية، وتعتبرهم شركاء لا مجرد مستهلكين.
ولا يعني ذلك التخلي عن المعرفة المهنية أو الذوق الجمالي، بل إعادة توزيع السلطة داخل الممارسة المعمارية، بحيث يصبح التصميم فعلًا تفاوضيًا يوازن بين الإمكانات التقنية والخبرات المحلية.
تستند هذه الرؤية إلى مبادئ العدالة الاجتماعية والحق في المدينة، وتُؤمن بأن لكل فرد – مهما كان موقعه الطبقي أو الاجتماعي – الحق في المساهمة في تشكيل الفضاء الذي يقطنه. وبهذا، تتحول العمارة من مشروع نخبوي إلى عملية جماعية تُعبّر عن التنوع والاختلاف، لا عن الهيمنة والتوحيد القسري.
خاتمة
لقد تأسّس مجال العمارة الحديث على مبادئ العقلانية والوظيفية، حيث سعى إلى إنتاج حلول مثالية يمكن تعميمها على الناس جميعهم. وغالبًا ما تجاهلت هذه المقاربة التنويرية الفروق الفردية، والقيود الجغرافية، والاختلافات الثقافية، ما أدى إلى نتائج غير ملائمة في السياقات المتنوعة، خصوصًا في العالم الجنوبي.
وبالرغم من أن العمارة لطالما بُنيت لخدمة البشر، إلا أن الممارسة المعمارية اليوم لا تتّجه بالضرورة نحو هذا الهدف. ومع ازدياد الاعتماد على أدوات التصميم البصرية والرقمية، أصبح المعماريون يركّزون أكثر فأكثر على إرضاء “زبائن” محددين – من طبقات رأسمالية ووسطى – تاركين جانبًا احتياجات الفقراء والفئات المهمّشة. بل إن بعض أنماط العمارة الحديثة تُستخدم كأداة لتجميل الواجهة العمرانية وإخفاء الفقر، لا لمحاربته.
إن “العمارة من أجل الإنسان” لا تعني فقط تصميماً مبانٍ مريحة وفعّالة، بل تعني كذلك: الإنصات، المشاركة، التواضع، والمساءلة. فهي دعوة إلى العودة إلى جذور العمارة كفن اجتماعي وأخلاقي، يتفاعل مع الإنسان ككائن حي، متغير، ومعقّد